السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أحسن الله إليك ياشيخ
ما معنى كون عيسى عليه السلام كلمة الله وروح منه؟
هل يصح قول: إنَّ عيسى عليه السلام "كلمة الله"؟ لم أفهم التفصيل في شرح هذه المسألة، أرجو أن توضحها يا شيخ.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
نعم عيسى كلمة الله تعالى وروح من الأرواح التي خلقها كما قال الله تعالى: {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم}، وقال تعالى: {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه}.
- قال عمير بن هانئ: حدثني جنادة بن أبي أمية، حدثنا عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله، وابن أمته، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء». رواه أحمد والبخاري ومسلم.
- وقال أبو حيّان التّيميّ، عن أبي زرعة بن عمرو بن جريرٍ، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه في حديث الشفاعة الطويل عن النبي صلى عليه وسلم وفيه، أنّ الناس في الموقف «يأتون عيسى؛ فيقولون: يا عيسى! أنت رسول اللّه، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، وكلّمت النّاس في المهد صبيًّا، اشفع لنا إلى ربّك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول عيسى: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله قطّ، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنبًا، نفسي نفسي! نفسي! اذهبوا إلى غيري! اذهبوا إلى محمّدٍ». رواه أحمد والبخاري ومسلم.
- وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب [الزهري]، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، عن أم سلمة رضي الله عنها - في خبر هجرتهم إلى الحبشة - وفيه أنّ النجاشي أجارهم من وفد المشركين بعد أن قرأ عليه جعفر بن أبي طالب سورة مريم، ثم إنّ عمرو بن العاص قال - وهو يومئذ على الشرك -: والله لانبئنهم غدا عيبهم عندهم، ثم أستأصل به خضراءهم.
قالت: فقال له عبد الله بن أبي ربيعة - وكان أتقى الرجلين فينا -: لا تفعل فإنَّ لهم أرحاماً، وإن كانوا قد خالفونا.
قال: والله لأخبرنَّه أنهم يزعمون أنَّ عيسى ابن مريم عبدٌ.
قالت: ثم غدا عليه الغد، فقال له: أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً، فأرسلْ اليهم فاسألهم عما يقولون فيه.
قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثله! فاجتمع القوم، فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟
قالوا: نقول والله فيه ما قال الله، وما جاء به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن، فلما دخلوا عليه، قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟
فقال له جعفر بن أبي طالب: «نقول فيه الذي جاء به نبينا: هو عبدُ الله ورسوله، وروحُه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول».
قالت: فضرب النجاشيُّ يده إلى الأرض، فأخذ منها عوداً، ثم قال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلتَ هذا العود، فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: «وإن نخرتم والله اذهبوا، فأنتم سُيُوم بأرضي - والسيوم: الآمنون – من سبَّكم غرم، ثم من سبَّكم غرم، فما أحبّ أنَّ لي دَبَرا ذهبا، وأني آذيت رجلا منكم - والدبر بلسان الحبشة: الجبل - ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لنا بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين ردَّ عليَّ مُلكي؛ فآخذ الرشوة فيه! وما أطاع الناس فيَّ؛ فأطيعهم فيه».
قالت: «فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دارٍ مع خير جار». رواه أحمد والطحاوي.
وروى نحوه أحمد مختصراً من حديث حديج بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن عتبة، عن ابن مسعود رضي الله عنه.
ومعنى كون عيسى كلمة الله أي أنه خُلق بكلمة من الله، لم يُخلق من ماء رجل، كما قال الله تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثمّ قال له كن فيكون}.
- قال معمر، عن قتادة في تفسير قول الله تعالى: {وكلمته ألقاها إلى مريم} قال: «هو قوله: (كن) فكان». رواه عبد الرزاق، والبخاري في خلق أفعال العباد، وابن جرير.
- وقال شاذ بن يحيى الواسطي: «ليس الكلمة صارت عيسى، ولكن بالكلمة صار عيسى» رواه ابن أبي حاتم.
وشاذ بن يحيى من أقران الإمام أحمد وقد أثنى عليه خيراً.
- وقال ابن جرير: (يعني بالكلمة: الرّسالة الّتي أمر اللّه ملائكته أن تأتي مريم بها، بشارةً من اللّه لها، الّتي ذكر اللّه جلّ ثناؤه في قوله: {إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ اللّه يبشّرك بكلمةٍ منه} يعني: برسالةٍ منه، وبشارةٍ من عنده).
أي: إن الله يبشّرك بكلمة منه يُخلق بها عيسى عليه السلام، وهي الكلمة المذكورة في قوله تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثمّ قال له كن فيكون}.
- وقال ابن كثير: (أي: خلقه بالكلمة الّتي أرسل بها جبريل، عليه السّلام، إلى مريم، فنفخ فيها من روحه بإذن ربّه، عزّ وجلّ، فكان عيسى بإذن اللّه، عزّ وجلّ، وصارت تلك النّفخة الّتي نفخها في جيب درعها، فنزلت حتّى ولجت فرجها بمنزلة لقاح الأب الأمّ والجميع مخلوقٌ للّه عزّ وجلّ؛ ولهذا قيل لعيسى: إنّه كلمة اللّه وروحٌ منه؛ لأنّه لم يكن له أبٌ تولّد منه، وإنّما هو ناشئٌ عن الكلمة الّتي قال له بها: [كن] فكان).
- وقال في تفسير قول الله تعالى: {إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ اللّه يبشّرك بكلمةٍ منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم}: (أي: بولدٍ يكون وجوده بكلمةٍ من اللّه، أي: بقوله له: "كن" فيكون، وهذا تفسير قوله: {مصدّقًا بكلمةٍ من اللّه}).
قلت: وقد أصاب في ذلك، ولذلك قال: {اسمه} ولم يقل "اسمها" لأن الحمل هنا على المعنى، وهو الولد المضمّن ذكره في الآية اكتفاء بوصفه.
وفي معنى تسميته بالروح أقوال:
أحدهما: أنه روح من الأرواح التي خلقها الله، وتخصيصه بالإضافة تخصيص تشريف كما في بيت الله، وهو قول أبيّ بن كعب، وجماعة من المفسرين، واختاره البغوي في شرح السنة.
- قال ابن جرير: (معنى ذلك: وروحٌ من اللّه خلقها فصوّرها، ثمّ أرسلها إلى مريم، فدخلت في فيها، فصيّرها اللّه تعالى روح عيسى عليه السّلام).
- قال أبو جعفر الرازي، عن الرّبيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعبٍ رضي الله عنه، في قوله تعالى: {وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيّتهم} قال: (أخذهم فجعلهم أرواحًا، ثمّ صوّرهم، ثمّ استنطقهم، فكان روح عيسى من تلك الأرواح الّتي أخذ عليها العهد والميثاق، فأرسل ذلك الرّوح إلى مريم، فدخل في فيها فحملت الّذي خاطبها، وهو روح عيسى عليه السّلام). رواه ابن جرير.
والقول الثاني: أنه سمّي روحاً لما أحيا الله به من أمره كما قال الله تعالى في القرآن: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا}.
والقول الثالث: أنه سمّي روحاً لأجل النفخة التي نفخ بها جبريل في جيب درع أمّه مريم كما في تفسير السدي، واختاره ابن جرير.
- قال ابن جرير: (وإنّما سمّى النّفخ روحًا لأنّها ريحٌ تخرج من الرّوح).
وهذا المعنى استشهد له جماعة من أهل اللغة بقول ذي الرمة يصف طريقة إيقاد النار:
فلمّا بدت كفّنتها وهي طفلةٌ ... بطلساء لم تكمل ذراعًا ولا شبرا
وقلت له ارفعها إليك وأَحْيِها ... بروحك واقتتْه لها قيتةً قدرًا
وظاهر لها من يائس الشّخت واستعن ... عليها الصّبا واجعل يديك لها سترا
فقوله: (أحيها بروحك) أي: أحْيِ النار بنفخك، حتى لا تخمد وتموت.
والقول الرابع: سمّي روحاً لأنّه رحمةٌ من الله، كما قال جلّ ثناؤه في موضعٍ آخر: {وأيّدهم بروحٍ منه}، ومعناه في هذا الموضع: "ورحمةٌ منه".
فجعل اللّه عيسى رحمةً منه على من اتّبعه وآمن به وصدّقه، لأنّه هداهم إلى سبيل الرّشاد.
وهذا القول ذكره ابن جرير في تفسيره.
والقول الخامس: أنه سمّي روحاً لما خصّه الله به من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص كما قال الله تعالى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ}.
والقول السادس: أنه سمّي روحاً لما جعل الله له من المحبة في قلوب الناس، وهو قول يزيد بن هارون الواسطي، ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره.
والقول السابع: أنه سمّي روحاً لأنه رسول من الله، وهو قول مجاهد، وهذا القول يؤول إلى معنى القول الثاني.
والقول الثامن: لأن الله أحياه فجعله روحاً، وهذا قول أبي عبيدة معمر بن المثنى، وقد ذكره البخاري في صحيحه عمّن لم يسمّه، وهو يؤول إلى معنى القول الأول.
القول التاسع: المراد بالروح هنا جبريل عليه السلام، أي: ألقى كلمته إلى مريم، وإلى جبريل وهو الروح، كما فسّر به في قوله تعالى: {نزل به الروح الأمين}، وقوله تعالى: {يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون} وقوله تعالى: {تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم}.
وهذا القول ذكره ابن جرير رحمه الله.
وهذه الأقوال صحيحة في نفسها وبين بعضها تقارب في المعنى، وبينها تلازم.
- قال ابن جرير: (ولكلّ هذه الأقوال وجهٌ ومذهبٌ غير بعيدٍ من الصّواب).
والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلّم.